أمَّا بعدُ:
ها نحن نعيش في شهر ذي الحجة، هذا الشَّهر أيَّامه العَشْر الأولى أيَّامٌ مُبارَكات، أيَّامٌ من أفضَل أيَّام الله، أيَّام أقسَمَ الله بها في كتابه الخالد، أيَّامٌ نَصَّ على فضلها كتابُ الله - تعالى - أيَّامٌ حدثنا عن فضلها نبيُّنا العظيم - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأخبرنا بأنَّ العمل الصالح فيها من أحبِّها إلى الله تعالى.
واسمَع إلى كتاب الله - تعالى - وهو يقول: ﴿ وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ * وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ ﴾ [الفجر: 1 - 4]، والليالي العشر هي عشر ذي الحجة، فالله - تعالى - أقسَمَ بها في قرآنه الخالد، وقسَمُ الله بها دلالةٌ على أهميَّتها وعظيم شأنها.
وهذا رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يُحدِّث أمَّته عن فضيلة هذه الأيَّام، ويحثُّهم على التزوُّد فيها من الأعمال الصالحات، فعن ابن عباسٍ - رضِي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ما من أيَّامٍ العمل الصالح فيها أحبُّ إلى الله من هذه الأيَّام))؛ يعني: أيَّام العشر، قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ((ولا الجهاد في سبيل الله، إلاَّ رجل خرَج بنفسه وماله، فلم يَرجِع من ذلك بشيءٍ))؛ رواه البخاري.
وعن أبي هُرَيرة - رضِي الله عنه - عن النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((ما من أيَّامٍ أحب إلى الله أنْ يتعبَّد له فيها من عشر ذي الحجَّة، يعدل صيام كل يوم منها بصيام سنة، وقيام كلِّ ليلة منها بقيام ليلة القدر))؛ رواه الترمذي، وقال: هذا حديثٌ غريبٌ (حديث ضعيفٌ لكن يُؤخَذ به في فضائل الأعمال).
فالعمل في هذه العشر يَفُوقُ الجهادَ في سبيل الله - عزَّ وجلَّ - ونحن - وللأسَف الشديد - تمرُّ علينا هذه الأيَّام كل عام ولا نُفرِّق بينها وبين غيرها، ولا نعمَل فيها زيادةَ عبادة ولا طاعة.
فأنا أقول من خلال هذا الكرم العظيم، الذي أخبَرَنا عنه نبيُّنا العظيم - صلَّى الله عليه وسلَّم - أقول للذين فاتَتْهم الأرباح في رمضان، فدَبَّ في نفوسهم اليأس من رضا الرحمن: أبشروا، ها هي أيَّام العشر الأولى من شهر ذي الحجة، إنها أفضل أيَّام الله.
ونجد كثيرًا من الناس يَحرص على الطاعات في العشر الأواخر من رمضان، ويُشَمِّر ويُكثِر من تلاوة القرآن، ويُكثِر من الدعاء والصدقة وغيرها، وهذا طيِّبٌ وجميل، ولكن في عشر ذي الحجة لا يُعمَل من هذا شيءٌ، مع أنَّ عشر ذي الحجة هناك من العلماء مَن قال: إنها أفضل من العشر الأواخر من رمضان، فما دام الأمر هكذا، فتَعالَ معي لأضَعَ اليومَ بين يدَيْك مَشروعاتٍ من الأعمال الصالحة؛ كي تستَثمِرَها في هذه الأيَّام المبارَكة.
المشروع الأول: التكبير والتحميد والتهليل والذِّكر:
فعن ابن عمر - رضي الله عنهما - عن النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((ما مِن أيَّامٍ أعظم عند اللهِ ولا أحب إليه العملُ فيهنَّ من هذه الأيَّام العشر، فأكثِرُوا فيهنَّ من التَّهليل والتَّكبير والتَّحميد))؛ رواه أحمد.
وقال البخاري: كان ابن عمر وأبو هريرة - رضي الله عنهما - يخرجان إلى السوق في أيَّام العشر يُكبِّران ويُكبِّر الناس بتكبيرهما.
عن سهل بن معاذ، عن أبيه، عن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّ رجلاً سأَلَه، فقال: أيُّ الجهاد أعظم أجرًا؟ قال: ((أكثرهم لله - تبارك وتعالى - ذكرًا))، قال: فأي الصائمين أعظم أجرًا، قال: ((أكثرهم لله - تبارك وتعالى - ذكرًا))، ثم ذكَر لنا الصلاة والزكاة والحج والصدقة، كلُّ ذلك ورسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((أكثرهم لله - تبارك وتعالى - ذكرًا))، فقال أبو بكرٍ - رضِي الله تعالى عنه - لعمر - رضِي الله تعالى عنه -: يا أبا حفص، ذهَب الذاكرون بكلِّ خير، فقال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أجَل))؛ رواه أحمد، (حديث ضعيف لكنْ يُؤخَذ به في فضائل الأعمال).
فأكثِر من التكبير والتحميد والتهليل في هذه الأيَّام، وأكثِر من قول: سبحانَ الله، والحمدُ لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، هن الباقيات الصالحات.
المشروع الثاني: الصلاة:
وهي من أجَلِّ الأعمال وأعظمها وأكثرها فضلاً؛ ولهذا يجب على المسلم المحافظةُ عليها في أوقاتها مع الجماعة في المسجد، واسمع إلى هذه القصَّة التي يرويها لنا عبيدالله بن عمر القواريري - رضِي الله عنه - والتي تُبيِّن لنا أهميَّة صلاة الجماعة وضرورة المحافظة عليها، يقول عبيدالله بن عمر القواريري - رضِي الله عنه -: لم تكن تفوتُني صلاة العشاء في الجماعة قطُّ، فنزل بي ليلةً ضيْفٌ فشغلت بسببه، وفاتَتْني صلاة العشاء في الجماعة، فخرجتُ أطلب الصلاة في مساجد البصرة، فوجدت الناس كلَّهم قد صلُّوا، وغُلِّقت المساجد، فرجعت إلى بيتي وقلت: قد ورد في الحديث الشريف أنَّ صلاة الجماعة تزيد على صلاة الفرد بسبعٍ وعشرين درجة، فصلَّيت العشاء سبعًا وعشرين مرَّة ثم نمتُ، فرأيتُ في المنام كأنِّي مع قومٍ على خيلٍ ونحن نستَبِق، وأنا أُرَكِّض فرسي فلا تلحقهم، فالتفتُّ إلى أحدهم، فقال لي: لا تُتعِب فرسك فلستَ تلحقنا، قلت لهم: لِمَ؟ قال: لأنَّنا صلَّينا العشاء جماعةً وأنت صليت وحدَك، فانتبهتُ وأنا مغمومٌ حزينٌ لذلك.
فليُحافِظ المسلم على الصلاة بجماعةٍ، وخاصَّة في أفضل أيَّام الله.
المشروع الثالث: الصدقة:
وهي من جملة الأعمال الصالحة التي يستحبُّ للمسلم الإكثار منها في هذه الأيَّام، وقد حَثَّ الله عليها، فقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [البقرة: 254]، وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ما نقصتْ صدقةٌ من مال))؛ رواه مسلم.
عن أبي ذرٍّ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((تعبَّد عابدٌ من بني إسرائيل، فعبد الله في صومعةٍ ستين عامًا، فأمطرت الأرض فاخضرَّت، فأشرف الراهب من صومعته، فقال: لو نزلتُ فذكرت الله، فازددت خيرًا، فنزل ومعه رغيفٌ أو رغيفان، فبينما هو في الأرض لقيَتْه امرأةٌ، فلم يزل يُكلِّمها وتكلِّمه حتى غشيها، ثم أغمي عليه، فنزل الغدير يستحمُّ، فجاء سائلٌ فأومأ إليه أنْ يأخذ الرغيفين ثم مات، فوُزِنت عبادة ستين سنة بتلك الزّنْية، فرجحت الزنية بحسناته، ثم وُضِع الرغيف أو الرغيفان مع حسناته، فرَجحَتْ حسناته، فغُفِر له))؛ رواه ابن حبان في "صحيحه".
المشروع الخامس: الاستغفار:
أخي المسلم، ألاَ تحب أنْ تسرَّك صحيفتُك يومَ القيامة؟!
قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَن أحبَّ أنْ تسرَّه صحيفتُه، فليُكثِر من الاستغفار))؛ حديث حسن رواه البيهقي في "شعب الإيمان".
وقال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَن استَغفَر للمؤمنين والمؤمنات، كتَب الله له بكلِّ مؤمن ومؤمنة حسنة))؛ رواه الطبراني، حديث حسن.
فلا تَدَع أنْ تقول دُبُرَ كلِّ صلاة: اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، فما أعظمَ ثوابَها!
واسمع إلى هذه القصة التي حدَثَتْ في زمن الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله تعالى -: كان الإمام أحمد بن حنبل يُرِيد أنْ يقضي ليلَتَه في المسجد، ولكن مُنع من المَبِيت في المسجد بواسطة حارس المسجد، حاوَل معه الإمام ولكن لا جَدوَى، فقال له الإمام: سأنام موضع قدمي، وبالفعل نامَ الإمام أحمد بن حنبل مكان مَوضع قدمَيْه، فقام حارس المسجد بِجَرِّه؛ لإبعاده من مكان المسجد، وكان الإمام أحمد بن حنبل شيخًا وَقورًا تبدو عليه ملامِحُ الكبر، فرآه خباز، فلمَّا رآه يُجَرُّ بهذه الهيئة، عرَض عليه المَبِيت، وذهَب الإمام أحمد بن حنبل مع الخبَّاز، فأكرَمَه ونعَّمَه، وذهَب الخبَّاز لتَحضِير عجينة لعمل الخبز، المهمُّ أنَّ الإمام أحمد بن حنبل سمع الخبَّاز يستَغفِر ويستَغفِر، ومضى وقتٌ طويل وهو على هذه الحال، فتعجَّب الإمام أحمد بن حنبل، فلمَّا أصبح سأل الإمام أحمد الخبَّاز عن استغفاره في الليل، فأجابَه الخبَّاز بأنَّه طوال ما يحضر عجينَه ويعجن، فهو يستَغفِر، فسأَلَه الإمام أحمد: وهل وجدت لاستغفارك ثمرةً؟ فقال الخبَّاز: نعم والله، ما دعوتُ دعوةً إلاَّ أُجِيبتْ، إلاَّ دعوة واحدة! فقال الإمام أحمد: وما هي؟ فقال الخبَّاز: رؤية الإمام أحمد بن حنبل! فقال الإمام أحمد: أنا أحمد بن حنبل، والله إنِّي جُرِرت إليك جرًّا.
فيا إخوة الإيمان، جدُّوا واجتَهِدوا في هذه الأيَّام، واحذَرُوا المعاصي والآثام؛ لأنَّ المعاصي تحرم المغفرة في موسم الرحمة، فكما أنَّ المعاصي سبب البعد والطَّرد من رحمة الله وخيره وبركته، فإنَّ الطاعات وسيلة القرب والرضوان وتحقيق الآمال، فالغنيمةَ الغنيمةَ بانتِهاز الفرصة في هذه الأيَّام العظيمة، نسأَلُ الله أنْ يُوفِّقنا أنْ نقدِّم في هذه الأيَّام أعمالاً صالحة.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله.